حارس الأكاذيب".. وثائقي Dan Krauss يفتح جراح حرب أفغانستان من جديد
- Menadocs

- 14 نوفمبر
- 2 دقيقة قراءة

الفيلم الوثائقي حارس الأكاذيب (Bodyguard of Lies) للمخرج الأمريكي دان كراوس هو عمل سينمائي جريء يعيد فتح ملف الحرب الأمريكية في أفغانستان من زاوية إنسانية واستقصائية نادرة. يتناول الفيلم تلك الحرب التي استمرت عقدين كاملين، كاشفًا النقاب عن طبقات من التضليل والتناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني الذي عاشه الجنود والمدنيون على حد سواء.
يستند كراوس في هذا العمل إلى ما عُرف باسم «أوراق أفغانستان» التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست، وهي وثائق داخلية سرية أظهرت كيف قامت الإدارة الأمريكية، على مدى سنوات طويلة، بتجميل صورة الحرب وتقديمها للرأي العام كحربٍ تسير نحو النصر، بينما كانت التقارير الداخلية تشير إلى عكس ذلك تمامًا. هذا التناقض بين السرد الإعلامي والحقيقة على الأرض هو المحور الذي يبني عليه كراوس بنية فيلمه السردية، مقدماً من خلاله شهادة بصرية صادمة عن الفجوة بين السياسة والحقيقة.
يتميز الفيلم بنهج بصري متقشف لكنه قوي التأثير، إذ يمزج بين الأرشيف العسكري، والمقابلات الشخصية، ومقاطع من جلسات استماع رسمية، ليخلق سرداً متماسكاً يفضح دينامية السلطة الإعلامية والسياسية في أوقات الحرب. يقدم كراوس شهادات حية لجنود سابقين ومسؤولين حكوميين وصحافيين استقصائيين، جميعهم يروون تجاربهم بمرارة ووعي متأخر بما كانوا جزءاً منه. بعض هذه الشهادات يحمل شعوراً بالندم، وبعضها الآخر يغلب عليه الغضب والخذلان، لكن القاسم المشترك بينها جميعاً هو الإحساس العميق بالضياع الأخلاقي.
يقترب الفيلم من موضوعه بحذر وتأمل، فلا يسعى إلى إصدار الأحكام أو تبني مواقف سياسية واضحة، بل يترك للمشاهد مهمة التفكير في الأسئلة التي يطرحها. من أبرز هذه الأسئلة: ما الذي يحدث عندما تصبح الحقيقة عبئاً سياسياً؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يحاسب نفسه عندما يُبنى قراره بالحرب على وعودٍ مضللة؟ من خلال هذا الطرح، لا يكتفي كراوس بتوثيق مرحلة تاريخية، بل يحوّل الفيلم إلى دراسة فلسفية عن معنى الصدق في زمن تسيطر فيه الدعاية.
يقدم العمل أيضاً قراءة إنسانية عميقة لمعاناة الأفراد العاديين الذين وجدوا أنفسهم داخل ماكينة الحرب دون إدراك لحجم التلاعب الذي أحاط بهم. تظهر في الفيلم لقطات جنودٍ عادوا إلى بلادهم محملين بذكريات ثقيلة وأسئلة بلا إجابات، بينما تتردد أصوات سياسيين وبرلمانيين يحاولون تبرير قراراتهم بلغة باردة ومجردة. هذا التناقض بين وجع الأفراد وبرود المؤسسات هو ما يمنح الفيلم بعده الدرامي الأقوى، حيث تتحول الوثيقة السياسية إلى مأساة بشرية.
لغة الفيلم البصرية تعكس رغبة كراوس في تجريد الحرب من بطولاتها الزائفة. الإضاءة الخافتة، الألوان الباهتة، والإيقاع البطيء تجعل المشاهد يواجه الواقع من دون مؤثرات أو تزيين. الموسيقى المستخدمة قليلة لكنها مدروسة، تخلق حالة من التوتر الهادئ الذي يرافق السرد حتى اللحظة الأخيرة.
«حارس الأكاذيب» ليس مجرد عمل وثائقي عن حرب انتهت، بل هو تأمل طويل في طبيعة السلطة والمعلومات، وفي مسؤولية من يملك القدرة على رواية القصة. إنه تذكير بأن الأكاذيب حين تُحاط بالوطنية قد تُصبح مقبولة، وأن الحقيقة حين تُقال بصوتٍ خافتٍ قد لا تجد من يسمعها. للمشاهد العربي، يقدم الفيلم تجربة ثرية لفهم كيف تُدار الحروب الحديثة في ظل خطاب إعلامي يبرر كل شيء باسم الأمن أو الوطنية، وكيف تتحول الحقيقة إلى ساحة معركة لا تقل عنفًا عن الميدان العسكري نفسه.
في النهاية، يظهر دان كراوس كمخرجٍ وصحافيٍّ يسعى إلى استخدام السينما كسلاحٍ للذاكرة والمساءلة. فيلمه يفتح بابًا للنقاش حول مسؤولية المجتمعات في مواجهة أكاذيبها، ويؤكد أن الحقيقة، مهما تم التلاعب بها، تظل تنتظر من يملك الشجاعة ليحرسها من النسيان.




تعليقات