بين الوثائقي والروائي
عالمـان يلتقيان

الكتابة الروائية، والكتابة والإخراج والإنتاج في الفيلم الوثائقي، مجالات مختلفة تماماً. إلى حدٍّ ما، يمكن القول إن العمليات الإبداعية فيهما متناقضة.
في الرواية، يسود الإطلاق التخيّلي. فهي نتاج عقل الكاتب وقلبه وروحه، توليفة من الذكريات والخيالات، وانفجار معقّد من الإلهام يصوغ حكاية آسرة أو مؤلمة الجمال.
أما في الفيلم الوثائقي، فالسرد دقيق ومرتبط بالحقيقة، تلك التي يميل الكُتّاب الروائيون عادةً إلى الابتعاد عنها. الرواية تُخلق من «بذرة» صغيرة قد تبدو تافهة لغير الكاتب، بينما الوثائقي هو تأويل ذو قيمة للحظة واقعية محددة في الزمن. شهادته صادقة، وقوته في دقّته.
هذا من ناحية النظرية، لكن تجربتي في الكتابة لكلا الشكلين تقول إن الاختلاف بينهما عميق، ومع ذلك فهما متشابهان إلى درجة أنك قد تخلط بين أدواتهما أحياناً.
في كثير من الأحيان، يلتقيان فعلاً في المنتصف.
في الرواية، الحوار والخلفية والبيئة هي ما يحرك السرد. نستخدم شخصياتنا لنحكي قصصاً عن الآخرين، نستعين بتعقيدهم الداخلي لنمنح القارئ إحساساً بالانتماء وبالاتجاه الذي تسير فيه الحبكة. ورغم أن الرواية تخييل حرّ، فإننا نعتمد أدوات محددة لإنتاج أثرها.
وفي صناعة الفيلم الوثائقي، نفعل الشيء ذاته تقريباً. شهادات الضيوف والمشاركين هي المكافئ الواقعي لحوارات الشخصيات في الرواية؛ هم «الأبطال» الذين نريد من المشاهد أن يتعاطف معهم. أما التعليق الصوتي واللقطات المساندة (Cutaways) فهي بمثابة السرد الوصفي الذي يضع المكان في سياقه ويمنح القصة عمقها، تماماً كما يفعل الراوي في الأدب.
في الأدب، نصف ما نريد للقارئ أن يتخيله؛ في الوثائقي، نُري المشاهد ما نريد أن يراه. في الرواية يكون الحوار دقيقاً وصادقاً لشخصياته، وفي الوثائقي تكون الشهادة موضوعية وصادقة ومكثفة لتصل المعنى بأقصى تأثير ممكن.
عندما أعمل في كل مجال، أستخدم أدوات مختلفة لهدف واحد: بناء قصة متماسكة تشد المتلقي. قبل البدء في أي فيلم وثائقي، أكون قد كوّنت تصوراً واضحاً للقصة (أليس هذا مألوفاً لكتّاب الرواية؟). بعد تحديد الفرضية، أبدأ بإجراء مقابلات طويلة مع الشخصيات — أو «المساهمين في البرنامج» كما نسميهم — مسجّلةً شهاداتهم وتجاربهم الشخصية.
في الرواية، الشخصيات المتخيلة تُجري معنا مقابلة بدورها، لكن داخل عقل الكاتب. أحياناً تسيطر علينا، تتحدث بإفراط، وتروي تفاصيل لا تفيد الحبكة، مما يجبرنا على العودة إلى النص وتحريره بصرامة. هكذا يلتقي الاثنان: الواقعي والخيالي، المساهم والشخصية، كلاهما يسرد، ونحن نحذف ونصفي للوصول إلى جوهر الحكاية.
عملية التحرير في كلا المجالين متشابهة. علينا أن نسأل: هل ما يُقال جوهري للقصة؟ هل هو مشوّق، دقيق، مؤثر؟ هل يدفع السرد إلى الأمام؟ هل يساعد القارئ أو المشاهد على فهم القصة في سياقها؟
في النهاية، سواء كنا نكتب رواية أو نصاً وثائقياً، فإن الهدف واحد: قصة واثقة تشدّ المتلقي وتبقيه متصلاً بها، من صفحة إلى أخرى، أو من مشهد إلى آخر. في الرواية نغلق الفصل بدافع العودة، وفي الوثائقي لدينا ما يسمى «قاعدة الثلاث دقائق» — أي إيقاع التغيير المنتظم في المشهد أو المعلومة للحفاظ على انتباه المشاهد. هذه التتابعات البصرية هي فصول متحركة.
ورغم التشابه، هناك اختلاف جوهري في الانضباط. في العمل الوثائقي أعرف تماماً إلى أين أذهب؛ فالحقيقة لا تسمح بالانحراف، لذلك أخطط بدقة قبل مرحلة المونتاج، أراجع كل إطار، أعدّ تعليقاً صوتياً أولياً، ثم أضيف التعليق النهائي بعد أن تستقر الشهادات في مواقعها الصحيحة وبالإيقاع المناسب. بعدها أضيف اللون — الصور التي تُجسّد القصة وتضفي عليها حياة. التعامل مع الواقع مسؤولية كبيرة، خاصة عندما يكون العمل وثائقياً ترفيهياً، إذ تقع على الكاتب مهمة الحفاظ على اهتمام المشاهد من البداية حتى النهاية.
هذه الدقة نفسها أفادتني في تحرير النصوص الروائية. فبعد عملي في التلفزيون، تعلمت كيف أحرر بموضوعية. أحياناً أحذف جملة أحبها أو مقطعاً مضحكاً لأن مكانه ليس هناك، تماماً كما يحدث في الرواية: قد تكون الجملة رائعة، لكنها لا تخدم النص. عندما أحذف مقطعاً من الجدول الزمني للفيلم، أودّعه بتحية صغيرة — طقوس رمزية للتخفيف من ألم الفقد.
في النهاية، يلتقي الخيال والواقع كثيراً، لكنهما يفترقان في أسلوب الكتابة.
